قد
روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه من حديث أسامة بن زيد- رضي
الله عنه- قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان!
قال: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع الأعمال فيه
إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم».
فأفادنا هذا الحديث بعدة أمور:-
الأول:
استحباب العبادة في أوقات الغفلة، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم سبب
تحريه صيام شعبان بقوله «شهر يغفل الناس عنه»، فإذا ترك العبد العبادة في
أوقات الغفلة صار كعامة الغافلين، ولم يكن من عباد الله المصطفين الذين
يصومون إذا الناس مفطرون، ويُصلون إذا الناس نائمون.
قال الحافظ
ابن رجب الحنبلي- رحمه الله: «وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة
الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون
إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام
في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه من الذكر، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم :»إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن،
ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يُؤخر العشاء إلى نصف
الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، ولما خرج على أصحابه
وهم ينتظرونه لصلاة العشاء، قال لهم: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم.
وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له [لطائف المعارف-137].
وتحدث
الحافظ ابن رجب الحنبلي- رحمه الله- عن فوائد الطاعة في أوقات ومواطن
الغفلة، فقال: «وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها: أنه يكون
أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام، فإنه سر بين العبد
وربه، ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء.
وقد صام بعض السلف أربعين سنة
لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما،
ويصوم فيظن أهله أنه أكلهما، ويظن أهل سوقه أنه أكل في بيته، وكانوا
يستحبون لمن صام أن يُظهر ما يُخفي به صيامه، فعن ابن مسعود- رضي الله
عنه- أنه قال: إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين، وقال قتادة: يستحب للصائم
أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام، وقال أبو التياح: أدركت أبي ومشيخة
الحي إذا صام أحدهم أدهن ولبس صالح ثيابه.
والعبادة وقت الغفلة أشق
على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما
تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل
الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى
بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم
فيها، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «للعامل منهم أجر خمسين
منكم، إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون»، وقال: «بدأ الإسلام غريبا
وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء»، وفي رواية: «قيل: ومن الغرباء؟ قال:
الذين يُصلحون إذا فسد الناس»، وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العبادة في الهرج كالهجرة إليّ».
وخرجه
الإمام أحمد ولفظه: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ»، وسبب ذلك أن الناس
في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم تنبيها بحال
الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه
ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم مؤمنا به، متبعا لأوامره، مجتنبا لنواهيه.
ومنها أن
المنفرد بالطاعة عن أهل المعاصي والغفلة قد يُدفع به البلاء عن الناس
كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم، قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين
كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك
الناس، وقد قيل في تأويل قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض)، أنه يدخل فيها دفعه عن العصاة بأهل الطاعة.
وجاء في الأثر إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله